جان بودان يُعَدُّ أحد أبرز المفكرين في الفكر الحديث، ويُنسَب له الفضل بفضل موسوعيته التي صاغها في كتابه “نبوغه المثمر ومعرفته الواسعة”. يُمَثِّل بودان شخصية فكرية هامة في مجال التنظير السيادي، حيث قام بإشعال شرارة التفكير السياسي في هذا المجال خلال العصر الحديث عن طريق توجيه الانتباه نحو هذا المسار. تظهر تأثيراته المباشرة على العديد من المفكرين في مجال السيادة، حيث استوحوا مفهوم السيادة في نظرياتهم السياسية منه، ومن بين هؤلاء الجنتيلي وغروتيوس وسبينوزا وهوبز وبيوفاندورف ولايبنتز وروسو وجييرك ويلينيك ودوغويت وشميت وهيلر ولاسكي ومكإلوين وأرندت. يُعَدُّ بودان أيضًا شخصية مركزية في التاريخ السياسي والقانوني، حيث يُعَدُّ أحد المنظرين الأساسيين لمفهوم السيادة ويُمثِّل مرجعية فكرية هامة للاحقين في هذا الشأن.
يجدر التنويه إلى أن جان بودان لم يُبتكَر مفهوم السيادة، وإنما يُعزى إليه الفضل في صياغة أول مقاربة “نسقية تهم طبيعة” لمصطلح السيادة الذي كان غامضًا في أصوله. تبرز أصالة بودان في سعيه المستمر لإزاحة الستار عن مفهوم السيادة من خلال تقديم المصادر التاريخية والقانونية والسياسية لهذا المفهوم. وقد توصل إلى استنتاجاته حول السيادة في كتابه الشهير “السلطة العامة الستة”، الذي يحتوي على نظرية شاملة للدولة والقانون، ونُشِرَ لأول مرة في عام 1576 باللغة الفرنسية بعنوان “Les six livres de la république”، وتمت ترجمته إلى اللاتينية في عام 1586 بعنوان “De republica libri VI”.
اعتمد جان بودان موقفًا سياسيًا داخل الساحة الفرنسية، حيث كرَّس نفسه لخدمة النظام الملكي. وبسبب ارتباطه بالنظام الملكي، شهد أحداث الحروب الدينية الفرنسية التي اندلعت ضد هذا النظام، وشاهد أعمال العنف الشديدة التي هزَّت فرنسا في سنوات 1560 و1570.
بنى جان بودان المفهوم الأساسي للسيادة على أربعة أعمدة رئيسية، وهي:
1. السيادة القانونية: تتعلق بالسلطة القانونية للدولة وقدرتها على إصدار القوانين وفرضها على المواطنين والمؤسسات.
2. السيادة السياسية: تتعلق بقدرة الدولة على تحقيق مصالحها وأهدافها السياسية بشكل مستقل، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وبدون تدخل خارجي.
3. السيادة الاقتصادية: تتعلق بقدرة الدولة على تنظيم اقتصادها واستغلال مواردها الطبيعية والبشرية بما يخدم مصالحها الاقتصادية وتحقيق التنمية الاقتصادية.
4. السيادة الثقافية: تتعلق بحق الدولة في حماية وتعزيز هويتها الثقافية وتعبيراتها الثقافية واللغوية والتاريخية، والحفاظ على تراثها وتطويره.
تعتبر فكرة السيادة أحد المفاهيم المعقدة في العلوم السياسية، وتتنوع تعريفاتها وفهمها حسب السياقات الثقافية والتاريخية المختلفة. يتناول العديد من الفلاسفة والمفكرون والسياسيون هذا المفهوم ويقدمون تعريفات ونظريات مختلفة حوله.
تنشأ جذور المشروعية السياسية في نظرية حقوقية لدى بودان، وتتناقض تمامًا مع نظرة هوبز التي اعتمدت على القوة في بناء برهان السيادة. كانت السيادة تمثل عمودًا فقريًا في مشروع بودان الفكري.
إذا أردنا فهم المقصد النهائي لمفهوم السيادة لدى بودان، يمكننا القول إنه يتجسد في الرغبة في تحقيق الوحدة السياسية داخل الدولة التي تعاني من تمزق متعدد الكيانات. تعتبر السيادة، وفقًا لهذا المفهوم، القطب الحاسم الذي يجمع بين أطراف الدولة المتناثرة ويجعلها تشكل وحدة صلبة تسمى “الدولة” في المفهوم الفلسفي، وتلقب بودان هذه الوحدة بمصطلح الجمهورية. وبفضل السيادة، يتحول التنوع إلى وحدة.
استدل بودان بأن السيادة تتطلب نوعًا من الإلزام يشمل المواطنين. يتطلب وجود حاكم يمثل رأس الدولة أن يكون جميع الجماعات والأفراد مخضعين لسلطته، مما يدل على عظمة حكمه على جميع أفراد المجتمع السياسي. وأوضح بودان أن الولاء هو مطلب للسيادة الذي يضمن حقوق وواجبات السيادة المشروعة، مما يسمح ببناء وحدة الدولة على أسس قوية ويؤدي إلى تحقيق نوع من التوافق والتآلف بين مكوناتها.
سعى جان بودان في حججه إلى جعل وحدة الدولة مستقرة من خلال فرض إلزام جماعي على جميع المواطنين دون استثناء. واعتمد في مناقشة الإلزام، الذي يتضمن مجموعة من الواجبات التي يفترض أن يقدمها المواطنون للسيادة، على ضرورة ربط الإلزام بسلطة سيادة واحدة تحظى بحق الولاء، نظرًا لأنها تحمل أسباب المشروعية السياسية في ضمان وحدة الدولة. من هذا المنظور القانوني، ندرك أن بودان اعتمد في برهانه على مفهوم خاص يتضمن مجموعة من الحقوق والواجبات التي تجسد جوهر الدولة، وتمكن المواطنين من الارتباط بسلطة سيادية مشتركة. ويضع هذا الموقف بودان في الجهة المقابلة لهوبز حيث تنشأ جذور المشروعية السياسية في عقيدة بودان من مصادر شرعية وتستند في المقام الأول إلى نظرية الحقوق. ويتعارض هذا التصور تمامًا مع وجهة نظر هوبز الذي يعتمد على القوة كأساس لبرهانه على السيادة، والتي تمثلت في مشروعه الفكري كأساس للمشروعية السياسية.
إذا أردنا فهم المقصود النهائي من مفهوم السيادة لدى بودان، يمكننا القول إنه يتجلى في السعي لتحقيق الوحدة السياسية داخل الدولة المنقسمة والتي تتألف من كيانات متعددة، وذلك من خلال تحقيق التماسك بين مكوناتها المختلفة. وبناءً على هذا التصور، تكون السيادة القطب الحاسم الذي يجمع أطراف الدولة المتناثرة في وحدة صلبة تُعرف بالدولة في السياق الفلسفي، وتسمى بودان هذه الوحدة بمصطلح الجمهورية. ومن خلال السيادة، يتحول التعدد إلى وحدة.
واستدل بودان بأن السيادة تتطلب نوعًا من الإلزام يشمل الرعية. وهو يشترط وجود حاكم يمثل رأس الدولة، ويتطلب من جميع الجماعات والأفراد الخضوع لسلطته، مما يدل على عظمة حكمه على جميع الفاعلين في المجتمع السياسي. وأوضح بودان في هذا السياق أن السيادة تستوجب الولاء، مما يضمن حقوق وواجبات السيادة المشروعة، ويمكن من خلاله بناء وحدة الدولة على أسس قوية، ويؤدي إلى تحقيق نوع من التناغم والتوافق بين مكوناتها.
سعى بودان في حججه إلى جعل وحدة الدولة ثابتة من خلال فرض إلزام جماعي يشمل جميع الأفراد في الرعية دون استثناء. واستند في مناقشة حجج الإلزام، التي تتضمن مجموعة من الواجبات التي يفترض أن تقدمها الرعية للسلطة، إلى أن الإلزام يتعلق بسلطة سيادة واحدة تتمتع بالمشروعية السياسية من خلال ضمان وحدة الدولة. ومن هذا الإطار القانوني، ندرك أن بودان قد اعتمد في برهانه على إطار خاص يتضمن مجموعة من الحقوق والواجبات التي تعبر عن جوهر الدولة .
نظر بودان إلى الشرعية السياسية من منظور السيادة. وترتبط السيادة بمفاهيم كثيرة تتفاعل مع الحق والالتزام والقانون. وحدد السيادة بمقاييس الجلالة والحكم الأعلى ، والتي لا تعني القوة في هذا الاتجاه بل تشير إلى الحق.
تتمتع طبيعة السيادة بأنها الحكم الأعلى ، حيث تأخذ شكلًا مرموقًا في إصدار الأوامر. وتعبر الأوامر عن الجانب الإجباري لسلطة صاحب السيادة على رعاياه. بيد أنه لا تقتصر صورة السيادة على سلطة الأمر العام بل تظهر في “السلطة الإنسانية لإصدار أوامر عليا”. تدل السيادة وفقا لجان بودان على سلطة إصدار الأوامر النهائية والعليا ، وهي بمعنى آخر شاملة وعامة. وتكون معظم أفعال صاحب السيادة مسموحة وبالتالي تندرج ضمن الحقوق السياسية. لا يخضع حكم صاحب السيادة للقانون وبما أن أفعاله مشروعة وجائزة فهذا يعني أن الأفعال تصبح في مرتبة الحقوق الشرعية التي تشكل السيادة.
غير أننا نتسائل في هذا الإطار ، هل يمكن للسيادة أن تخضع لسلطة ربما تكون أعلى منها أو مساوية لها أو أقل منها؟ وهل هناك واجب شرعي يمكن أن يحد من السيادة؟
إن صاحب السيادة وفقا لبودان يسكن في هرم الدولة ويمارس الرقابة الشاملة على من يكون تحته ولا مجال لمساواة سلطة السيادة بسلطة محكوميه ، فبناء على نظام التسلسلية تخضع سلطة المحكومين لسلطة السيادة. ولا يخضع صاحب السيادة في الفكر السياسي الحديث للقانون. واستخدم بودان صيغة مشتقة من القانون الروماني لتحديد صاحب السيادة ، واعتبره وفقا لهذا التعريف محررا من الالتزامات. هل يمكننا القول بأن كل شيء مشروع للسيادة؟
اعترف جان بودان بأن سلطة السيادة هي أوامر تترجم عبر القانون. ونشير إلى أن الأوامر تتعلق مباشرة بالشؤون العامة للدولة.
وافترض أن الأمر مرتبط بالتزام سابق يخص علاقة السيادة بالرعية. وقبل أن تتمكن السيادة من بدء توجيه أوامر خاصة تهم الرعية مباشرة ، يجب في البداية معرفة مواقع وأدوار السيادة والرعية ، وفصل الحقوق والواجبات المتعلقة بكل دور وموقع على حدة. ووصف بودان أدوار السيادة والرعية بوصفها الالتزام. وتحمل فكرة الالتزام جانبين مختلفين ، فالسيادة تمتلك حق إلزام الأمر على الرعية ، ومن واجب الرعية إتمام علاقتها بالخضوع لأوامر السيادة و لا شك أن الرعية ملزمة أمام صاحب السيادة ، إذ يتعلق ذلك بضرورة تنفيذ واجب الخضوع لأمر السيادة الذي قلنا بأنه يشير إلى الالتزام بالقانون.
افترض بودان في فلسفته القانونية ، أن دور القانون وفقا لمنطق الفكر القانوني ، يعبر عن قواعد إجبارية. وظهر له أن صاحب السيادة هو المسؤول الرئيسي عن إنشاء النظام الإجباري. وأكد على أهمية تشريع القانون من جانب السيادة ، واقر بأنه يصبح أداة أساسية في يده لتقييد الرعية ويسمح له بإلزام طرق تنفيذها لأفعال محددة. وأشار بودان في كتاب الجمهورية إلى جوهر السيادة ، ويتمثل في امتلاك حق التشريع ، والحرص على إلزام المحكومين بتحقيق فعل محدد من خلال صياغته في قضايا شكلية تدل على الأمر ، بحيث يمكن القول إن “جميع حقوق السيادة الأخرى مستردة ومشتقة من هذا الحق”.
و لا تقتصر السلطة التشريعية ، على سن قوانين جديدة فقط ، بل تشمل أيضًا إلغاء القانون القديم. وبهذه الطريقة ظن بودان أن التشريع يعبر عن حقوق و”سلطة السيادة في سن وإلغاء القانون”.ظن جان بودان أن السيادة تتميز بسلطتها العليا ، حيث تستطيع تحرير الرعية من الالتزام ،